السيدة زينب والدرب الأحمر ..قبل 100 سنة !
في أوائل سبعينيات القرن العشرين وجه يوسف السباعي لوما مباشرا إلى الناقد الكبير رجاء النقاش.
يقول السباعي لرجاء: “أنت تريد أن تقتلني ! ”
وحين اندهش النقاش من التهمة فسر السباعي كلامه قائلا “أنت تكتب ليل نهار عن نجيب محفوظ ولا تكتب عني كلمة واحدة !”
ساق النقاش تبربره قائلا “أنت في موقع سياسي خطير” أما محفوظ فليس إلا فنان وأديب ومبدع، وحين أكتب عنه لن يفهم الناس من نقدي أية شبهة مجاملة، بينما لو كتبت عنك وأنت تملك هذه السلطات السياسية والثقافية الواسعة فلا بديل عن تفسير بالمجاملة والمنفعة والمصلحة.
يقول رجاء النقاش إنه من أسفٍ أنه بعد هذا الموقف بعدة سنوات، وفي 1978، حين تعرض يوسف السباعي لحادث اغتيال أرداه قتيلا في قبرص، جاء الاغتيال بيد ناقد سياسي لا ناقد أدبي، بينما تعرض نجيب محفوظ لاحقا لمحاولة اغتيال لأسباب أدبية وفكرية لا أسباب سياسية.
(1)
ولد يوسف السباعي في عام 1917 في محيط مسجد السيدة زينب في وسط القاهرة. وقد عاش لأسرة ميسورة بمعايير ذلك الزمن وكان أبوه “محمد السباعي” أديبا ومترجما رائدا في تلك الفترة، وإن لم يحظ بشهرة كبيرة مثل الأسماء اللامعة في عصره. وانضم الابن لدراسة الحربية في العهد الملكي وبرع في شبابه في ذلك العهد، سواء في كتابة الأدب أو في الرتب العسكرية. أما ظهوره وتألق اسمه لاحقا في عهد عبد الناصر وعهد السادات فجاء استكمالا لمسيرته الأدبية التي بدأت منذ الملكية..وليس بداية لها !
والكتاب الذي نعرض له اليوم وعنوانه “من أبو الريش إلى جنينة ناميش” نشره في عام 1950 وهو يرتع في عنفوان وحلاوة ثلاثينيات عمره.
و”أبو الريش ” اسم لضريح مشهور في المنطقة التي نتحدث عنها ويقع اليوم قرب محطة مترو السيدة زنيب، أما “جنينة ناميش” فحي صغير مؤلف من عدة شوارع يكاد يندثر اليوم ولا نجد له أثرا في الخريطة، ويقع غير بعيد عن مسجد السيدة زينب فيما بين المسجد والانحناءه الكبرى التي يصنعها شارع الخليج المصري الذي يسمى اليوم شارع بورسعيد.
(2)
في هذا الكتاب 12 قصة قصيرة تعد مثالا عن “روح المكان”. تدور كل القصص في مواقع جغرافية تكاد تندثر اليوم. وقد وصفها يوسف السباعي في عام 1950 منتزعا حالتها من أيام طفولته وصباه في عام 1927, أي أنك إذا طالعتها اليوم في عام 2022 فأنت تمسك بيديك وصفا لأوضاع مر عليها نحو قرن من الزمن.
الأسماء التي تردد ذكرها في المجموعة القصصية هي: ضريح أبو الريش، سيدي الحبيبي، سيدي الطيبي ، جنينة ناميش، شارع درب الجماميز، شارع الخليج المصري، مقام زين العابدين، الناصرية، الماوردي، سيدي زينهم، والبغالة.
قبل أيام قليلة تناولت فطوري من الفول والفلافل في حي “البغالة”، وأثناء شرب الشاي على قهوة عتيقة فتحت الخريطة الرقمية متصفحا أسماء الشوارع فاكتشفت أن اسم “يوسف السباعي” ممنوح لقطاع مهم من أحد الشوارع المعروفة في التراث الشعبي والتاريخي باسم شارع “السد البراني”.
أخذتني الدهشة قبل أن أراجع السيرة الذاتية عن سبب وضع اسم الأديب الشهير على هذا الشارع دون غيره.. لكن قراءة المجموعة القصصية التي بين أيدينا تكشف عن هذا السبب، فمعظم الأحداث والوقائع تمت هنا في مرتع طفولة وصبا الأديب الكبير الشهير الخطير. وهو يصفها بدقة وحس فكاهي وقدرة بليغة على الرسم بالكلمات الحية المتدفقة شبابا وحركة.
(3)
لا تضم المجموعة القصصية وصفا للأماكن فحسب، بل تقدم وصفا واقعيا لشخصيات مصرية شعبية عاشت في هذا الحي.
والجميل أن معظم الشخصيات من الطبقة العاملة والمشردين والدراويش والنساء. ولأن أديبنا الكبير ألف هذا الكتاب في سن الثلاثين فجاء وصفه للمرأة الشعبية عامرا بالإثارة والفتنة.
تحوي المجموعة القصصية مشاهد بالغة الفكاهة، ومعلومات تاريخية عمرانية عن توسعة الشوارع وعن بعض بيوت الدعارة، وعن الخدم والأغنياء، وعن حرفة الأراجوز، وحياة الدرويش في أبو الريش، وعن الكتاتيب والمدارس، وعن مطعم للسمك بجوار سيدي الحبيبيي وطبليات الكوارع في شارع المدبح، وعن أضرحة الأولياء في محيط السيدة زينب.
تستوقفك أيضا المفردات الشعبية المستخدمة في المنطقة الجغرافية التي تتناولها القصص القصيرة، ولعل المفردات اللغوية المسجلة في هذه المجموعة بالغة الأهمية تكاد تحفظ ما انطبع في أذن الأديب وهو صبي صغير ولعلها أيضا كانت مادة ثرية استقى منها كتاب السيناريو ونهل منها مخرجو السينما في مصر قاموس الأحياء العتيقة في القاهرة، وما يضمه هذا القاموس من تعليقات لاذعة في الشارع المصري.
(4)
تختتم المجموعة القصصية بإهداء صادم وضعه المؤلف في ختام الكتاب لا في مقدمته. الصدمة تأتي من أن الأهداء يحمل عنوان “إلى الحمير الكبار”
يمكن أن نفهم الحمير المقصودة حميرا حقيقية في حي البغالة، لأن الكاتب يقول إنه استلهم منها وحي الكتاب وحكمته.
لكن السباعي يربكنا ويضعنا في موقف محرج للغاية حين يلحق الإهداء بصفحات أخرى يقول فيها إنه كان يبحث عمن يكتب له مقدمة للكتاب
يكشف لنا يوسف السباعي أنه – في عام 1950 وهو بعد ابن ثلاثين سنة –حاول أن يصل إلى توفيق الحكيم ليكتب له المقدمة لكنهم قالوا له إن هذا الحكيم يحب المال حبا جما ولن يكتب لك مقدمة إلا إذا منحته 100 جنيه ….وهو رقم فلكي بمعايير ذلك الزمن.
وفكر في أن يطلب من “المازني” كتابة المقدمة، لكنه تراجع لأن المازني سيكتب المقدمة دون أن يقرأ الكتاب لأنه لا وقت لديه.
وفكر في العقاد لكنه خشي أن يشتمه العقاد في المقدمة بدلا من أن يمدحه.
وفكر في طه حسين فتوصل إلى أن طه حسين إن قبل فسيكتب مقدمة أطول من الكتاب .
وفكر في أن يعهد بالمقدمة إلى “زكي مبارك” – صديق والده محمد السباعي – لكنه توقع أن تأتي المقدمة لا عن والده، ولا عن الكتاب، بل عن زكي مبارك نفسه !
وهذه المقدمة/ الخاتمة الغريبة تحتاج إلى تفسير من النقاد عن طبيعة محتواها ،ذلك لأن يوسف السباعي رغم جهوده الأدبية الكبيرة وأعماله الغزيرة محل تجاهل من كتاب ونقاد كثر إلى يومنا هذا، ليس فقط لأسباب وجوده في السطلة وتوليه وزارة الثقافة ورئاسة مؤسسة الأهرام وموقفه من السلام مع إسرائيل بل لأسباب أخرى أترك التعليق عليها لأهل الذكر من النقاد دون أن أتجاوز حدودي المهنية هنا.
(5)
قدمت في السطور السابقة قراءة عابرة للكتاب الممتع الذي يضم 15 قصة قصيرة بديعة في 140 صفحة، كتبت بقلم رشيق، وتضم توثيقا بالغ الأهمية كتبه يوسف السباعي بلغة نابضة عامرة بالطاقة وفي سياق مبهج من أسلوب عذب.
وليس صحيحا أن السباعي كاتب رائد في الواقعية والرومانسية فحسب بل تكشف المجموعة عن أبعاد رمزية وفلسفية مهمة إلى جانب أهمية المجموعة القصصية لكل من دارسي التاريخ والجغرافيا والأدب وعلم الاجتماع والعمران.
فرندة